العنوان هنا
تقدير موقف 28 يوليو ، 2021

الانقلاب الرئاسي على الدستور في تونس: ظروفه وحيثياته ومآلاته

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد، مساء الأحد 25 تموز/ يوليو 2021، عزل رئيس الحكومة هشام المشيشي، وتولّيه السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة يعيّنه بنفسه، ورئاسة النيابة العمومية، وتجميد عمل مجلس النواب، ورفع الحصانة عن النواب. وجاءت قرارات سعيّد، التي مثلت انقلابًا على الدستور، عقب يومٍ شهد مظاهراتٍ وأعمالَ شغب في عدد من المدن، شملت الاعتداء على مقرات حركة النهضة في بعض المدن؛ لتكون ذريعةً استخدمها الرئيس للاستئثار بالحكم، وتبدو خطوته كأنها ضد حركة النهضة، مع أنها تأتي في سياق صراعه مع مجلس النواب منذ توليه الحكم، وليس مع حركة النهضة.

أولًا: خلفيات الأزمة وأسبابها

لم تكن القرارات التي أعلنها الرئيس قيس سعيّد، مساء الأحد 25 تموز/ يوليو الجاري، منفصلة عن سياقات الأزمة السياسية التي تمرّ بها تونس منذ سنتين. فإثر الانتخابات التشريعية (البرلمانية) والرئاسية التي شهدتها البلاد، أواخر 2019، والتي جاءت بسعيّد رئيسًا للجمهورية ومنحت حركة النهضة أكبر كتلة برلمانية من دون أغلبية، بدأ الصراع على الصلاحيات بين رئيس الجمهورية، من جهة، وكل من مجلس النواب والحكومة، من جهة ثانية، يظهر إلى العلن[1]. وتصاعدت التجاذبات إثر اختيار الرئيس سعيّد هشام المشيشي لرئاسة حكومة تخلف حكومة إلياس الفخفاخ، ثم تراجعه السريع وطلبه من كتل مجلس النواب عدم منح الثقة للفريق الحكومي بعد أنْ أبدى المشيشي تمسّكًا بصلاحياته الدستورية في اختيار أعضاء الحكومة ورفضه أداء دور "وزير أوّل" لدى سعيّد؛ فليس النظام التونسي نظامًا رئاسيًّا.

تعمّقت الأزمة بين الطرفين، إثر التعديل الوزاري الذي أجراه المشيشي على فريقه الحكومي وقد استبعد، بمقتضاه، الوزراء المحسوبين على سعيّد؛ وهو التعديل الذي قابله سعيّد بالرفض والامتناع عن دعوة الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية أمامه - رغم أن مجلس النوّاب منحهم الثقة - بتعلّة أنّ بعضهم يُشتبه في فساده. وهذا ليس من صلاحيته؛ فتُهم الفساد - وليس الشبهة – إنّما يحسم فيها القضاء، كما أنّ أداء اليمين بعد منح الثقة في مجلس النواب إجراء شكلي لا يجوز استخدامه لعزل وزراء منَحهم هذا المجلس ثقته. وإثر ذلك، كرّس سعيّد قطيعته مع الحكومة وكتل مجلس النواب التي تدعمها برفض التصديق على قانون تعديل انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية الذي أجازه مجلس النواب نفسُه بأغلبية مريحة، ثم بإعلان نفسه قائدًا أعلى للقوات المسلحة المدنية (الشرطة، والحرس الوطني، والجمارك)، إضافةً إلى صفته الدستورية قائدًا أعلى للجيش.

وفي خضم هذه الأزمة، لم تكن أغلبية مجلس النواب حاكمةً، بل إنها كانت داعمةً لحكومة تكنوقراط، وانشغلت الأحزاب في صراعاتها من دون أن تلتفت إلى امتداد الرئاسة التدريجي إلى صلاحيات الحكومة ومجلس النواب، كما سمح وجود حزب مؤيد للنظام القديم ومُعادٍ للثورة وللديمقراطية، يقوم عمليًّا بالتهريج خلال جلسات مجلس النواب، بتصوير هذا المجلس على أنه مكان فاقد للصلة بواقع الناس وحياتهم اليومية؛ ما أسهم في تعزيز الخطاب الشعبوي للرئاسة والموجَّه ضد الأحزاب ومجلس النواب.

ثانيًا: التحضير للانقلاب الرئاسي

على وقع الأزمة السياسية/ الدستورية المتصاعدة بين رئيس الجمهورية ورئيسَي الحكومة ومجلس النواب، تواترت على شبكات التواصل الاجتماعي، خلال الأسابيع الأخيرة، دعوات للتظاهر يوم الأحد 25 تموز/ يوليو؛ الذي يصادف عيد الجمهورية، للمطالبة بحل مجلس النواب، وإقالة الحكومة، ووقف العمل بالدستور، وإلغاء النظام السياسي والقانون الانتخابي الحاليَّين، ومعاقبة السياسيين؛ خاصة من حركة النهضة، وعسكرة الإدارة، والدخول في مرحلة انتقالية يشرف عليها الرئيس قيس سعيّد. ورغم أنّ الصفحات التي تولّت الترويج لهذه الدعوة، والتي لقيت منشوراتها تغطية مكثفة من قنوات فضائية تبثّ من الإمارات العربية المتحدة ومصر، لم تكشف عن هوية سياسية أو حزبية واضحة، فإنها أجمعت على استثناء الرئيس سعيّد من منظومة الحكم التي تطالب برحيلها، وكأنه ليس أحد السياسيين.

وبالفعل، شهد يوم الأحد 25 تموز/ يوليو خروج مجموعات من المحتجين أمام مبنى مجلس النواب وفي عدد من المدن؛ أهمها سوسة، وتوزر، والقيروان، وصفاقس، ونابل. ورغم أن عدد المتظاهرين لم يكن كبيرًا، فإن بعض التحركات شهدت أعمال عنف دارت، جلّها، حول مقرات حركة النهضة؛ إذ عمد المحتجون في مدينة توزر، جنوب غرب البلاد، إلى اقتحام المقر وإتلاف محتوياته، في حين قام المتظاهرون في القيروان وسوسة بنزع لافتاته. أمّا في العاصمة، فقد حاول عدد من المتظاهرين الاقتراب من المقر المركزي لحركة النهضة، إثر إعلان قرارات الرئيس سعيّد، غير أن شرطة مكافحة الشغب منعتهم من ذلك[2]. ويبدو أن المشهد كان مخططًا لكي يبدو صراع الرئيس على الصلاحيات مع مجلس النواب صراعًا مع النهضة لتسهيل استيلائه على صلاحيات هذا المجلس ضمن نظام برلماني في جوهره.

ثالثًا: تبرير الانقلاب على الدستور

دعا قيس سعيّد مجموعة من القيادات الأمنية والعسكرية إلى اجتماع طارئ في قصر قرطاج، مساء الأحد 25 تموز/ يوليو الجاري، وأعلن، في ختام الاجتماع: "اتخاذ تدابير يقتضيها الوضع لإنقاذ الدولة والمجتمع بعد التشاور مع رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب". وتمثّلت القرارات المعلَنة في "تجميد كل اختصاصات المجلس النيابي، ورفع الحصانة عن جميع أعضائه"، و"تولي رئاسة النيابة العمومية"، و"تولي السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة يعيّنه رئيس الجمهورية"، مؤكدًا "إعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي فورًا ودعوة شخص آخر ليتولى رئاسة الحكومة، على أن يكون مسؤولًا أمام رئيس الجمهورية الذي يتولى بنفسه تعيين أعضاء الحكومة ورئاسة مجلس الوزراء". وتوعّد سعيّد "أي شخص يتطاول على الدولة وعلى رموزها ومن يطلق رصاصة واحدة"، بـ "مجابهته بوابل من الرصاص"، متّهمًا خصومه بـ "النفاق والغدر والسطو"[3].

وإثر الكلمة التي ألقاها سعيّد في الاجتماع الأمني والعسكري، نشرت رئاسة الجمهورية جملة القرارات المعلَنة باستثناء تولي رئيس الجمهورية رئاسة النيابة العمومية، كما تمّ تحديد مدة تجميد اختصاصات مجلس النواب بثلاثين يومًا. وفي اليوم التالي، أصدر سعيّد أوامر رئاسية بعزل وزير الدفاع ووزيرة العدل بالنيابة، إضافة إلى رئيس الحكومة هشام المشيشي، وتعطيل العمل في الإدارات العمومية مدة يومين قابلين للتمديد، وحظر التجوال الليلي مدة شهر، ومنع كل تجمّع يفوق ثلاثة أشخاص.

أعلن سعيّد أن القرارات المتخذة تستند إلى الفصل (المادة) 80 من دستور الجمهورية التونسية، الذي ينص على ما يلي: "لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لشؤون الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتّمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية"[4]، كما ينص على أن مجلس نواب الشعب "يُعتبر في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة"، وعلى أنه "في هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة". لكن سعيّد خالف بوضوح نص هذه المادة؛ فبدلًا من أن يقوم باستشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب، أقال الأول وجمّد عمل الثاني. ثمّ إنّ المادة المذكورة لا تنصّ على تولي رئيس الجمهورية رئاسة النيابة العمومية؛ ما يعني وضع السلطة القضائية تحت سلطته[5].

واعتبر أستاذ القانون الدستوري عياض بن عاشور "أن اللجوء إلى الفصل 80 في الوضع الحالي لا معنى له، بل هو يخالف تمامًا وبشكل صريح مقتضيات الدستور التونسي، لغياب الشروط الجوهرية والشكلية". على مستوى الشروط الجوهرية، أكّد على عدم وجود خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة. أما على مستوى الشروط الشكلية، فأكد على ضرورة التحقق من قيام رئيس الجمهورية باستشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب، كما أشار إلى أن الرئيس لم يقم بإعلام رئيس المحكمة الدستورية، نظرًا إلى عدم وجوده، ما يمنع من الاستناد إلى الفصل 80 من الدستور التونسي[6].

ورأت الجمعية التونسية للقانون الدستوري أن قرار الرئيس تجميد جميع اختصاصات مجلس النواب "لا يدخل ضمن التدابير الاستثنائية". وأضافت أن الفصل 80 ينص على بقاء المجلس في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة، الأمر الذي يتناقض مع تجميد اختصاصاته. وأوضحت الجمعية في بيانها "إن حالة استثناء، تمثل بطبيعتها وضعية دقيقة يمكن أن تفتح الباب على عدة انحرافات". كما أعلنت عن مخاوفها من مخاطر تجميع كل السلطات لدى رئيس الجمهورية[7].

رابعًا: إجماع على رفض الانقلاب رغم الانقسام

ما إنْ أعلن الرئيس سعيّد قراراته حتى عبّرت الأحزاب التونسية، على اختلاف توجهاتها الحزبية والأيديولوجية، باستثناء حزبَين، عن رفضها لها، في حين تحفظت المؤسسات المدنية الكبرى عنها، ورفض أغلب القانونيين التونسيّين تفسيرات الرئيس للدستور. وقد اعتبرت حركة النهضة أنّ ما جرى هو "قرارات لا سند لها من القانون والدستور"، ووصف رئيس مجلس النواب، راشد الغنوشي، الخطوة بأنها "انقلاب على الدستور والثورة والحريات العامة والخاصة"، مؤكدًا أنّ "مجلس النواب قائم وفي حالة انعقاد دائم"، وأنّ الرئيس سعيّد استشاره في تمديد حالة الطوارئ، وأنّ الاستشارة لم تكن متعلقة بالإجراءات المعلَنة[8].

وجاء موقف ائتلاف الكرامة منسجمًا مع موقف حركة النهضة، حيث عَدَّ الائتلاف قرارات سعيّد "انقلابًا خطيرًا وفاضحًا على الشرعية الدستورية"، مُبديًا "رفضه المطلق لكل القرارات التي أعلنت عنها رئاسة الجمهورية"، و"استغرابه العميق من توظيف المؤسستين العسكرية والأمنية لتعطيل عمل المؤسسة البرلمانية"[9]. أما حزب التيار الديمقراطي، فقد تحاشى وصف قرارات سعيّد بالانقلاب، غير أنه قال إنه يختلف مع تأويل "رئيس الجمهورية للفصل 80 من الدستور"، وإنه "يرفض ما ترتب عنه من قرارات وإجراءات خارج الدستور"[10]. أما حزب العمال (وهو حزب يساري)، فقد وصف قرارات سعيّد بأنها "خرق واضح للدستور"، واعتبر أن الإجراءات المعلنة تجسّد "مسعى قيس سعيد منذ مدة إلى احتكار كل السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، بين يديه، وتدشن مسار انقلاب باتجاه إعادة إرساء نظام الحكم الفردي المطلق من جديد"[11]. أما الحزب الجمهوري التونسي فقد عدّ قرارات الرئيس "خروجًا عن نص الدستور وانقلابًا صريحًا عليه، وإعلانًا عن العودة إلى الحكم الفردي المطلق، وحنثًا باليمين التي أدّاها رئيس الجمهورية بالسهر على احترام الدستور"[12].

وانفردت حركة الشعب (وهي حزب قومي) بتأييد القرارات التي أصدرها الرئيس سعيّد، واعتبرتها "طريقًا لتصحيح مسار الثورة الذي انتهكته القوى المضادة لها وعلى رأسها حركة النهضة والمنظومة الحاكمة برمتها"[13].

أما الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي اجتمع أمينه العام إلى الرئيس سعيّد عقب إعلان الإجراءات الأخيرة، فقد اتخذ موقفًا متحفظًا؛ إذ أبدى مساندته لـ "التحرّكات الاجتماعية والشعبية السلمية التي انطلقت في العديد من الجهات"، مُنبّهًا إلى "ضرورة الحرص على التمسّك بالشرعية الدستورية في أيّ إجراء يُتّخذ في هذه المرحلة الدقيقة التي تمرّ بها البلاد"[14].

خامسًا: صعوبات تواجه انقلاب الرئيس

حتى الآن، لم يُسمِّ الرئيس الشخصية التي ستخلف المشيشي في رئاسة الحكومة. ويؤشر هذا التأخير إلى إمكانية بروز صعوبات في الاختيار، خاصة أن الشخصية الجديدة ستكون بمنزلة موظف عند الرئيس الذي يريد أن يدير بنفسه عمل الفريق الحكومي، وذلك مع الخشية من الوقوع في مزيد من الإخلالات الدستورية بشأن منح الثقة للفريق الحكومي في ظل تجميد عمل مجلس النواب.

كذلك، يواجه سعيّد صعوبات في تمرير قرارات أخرى؛ إذ رفض المجلس الأعلى للقضاء قرار الرئيس تولي رئاسة النيابة العمومية، مؤكِّدًا "استقلالية السلطة القضائية وضرورة النأي بها عن كل التجاذبات السياسية"، ومؤكدًا، عقب اجتماع بعض أعضائه بالرئيس، أن "النيابة العمومية جزء من القضاء العدلي"[15]. ويضاف إلى ذلك الموقف الغالب لمعظم الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية، وهو موقف داعٍ إلى ضرورة احترام الدستور، والتقيد بالآجال المحددة، واحترام حقوق الإنسان والحريات الفردية والجماعية.

وبسبب ردود الأفعال هذه، التي أكدت في معظمها عدمَ دستورية القرارات التي اتخذها الرئيس، بدأت تتراجع حالة الاندفاع التي ميزت سلوك أنصار الرئيس سعيّد، في البداية، وآمالهم في توظيف المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية للتخلص السريع من خصومهم، بالاعتقالات والسجون. فلم تسجل حتى الآن أيّ اعتقالات، واكتفت قوات الأمن بتفريق متظاهري الطرفين أمام مجلس النواب، في حين اقتصر انتشار الجيش على مدخلَي قصر الحكومة في القصبة ومجلس النواب؛ حيث مُنع رئيسه راشد الغنوشي وأعضاؤه من الدخول في اليوم التالي لإعلان قرارات الرئيس، وبرر الضباط قرار المنع بتطبيق "تعليمات عليا"، في إشارة إلى القيادة العليا للقوات المسلحة التي يتولاها قيس سعيّد.

ولم يصدر أي موقف رسمي عن المؤسسة العسكرية مما يجري، غير أن إعلان سعيّد قراراته بحضور القيادات العليا للجيش والأمن قد يؤشر إلى أنه ضمن موافقتها قبل أن يُقدم على إجراءات وقف الحياة الدستورية. ورغم ذلك، تظل موافقة المؤسسة العسكرية، في حال حصولها، معطى غير كافٍ للجزم بتغير في السلوك الذي طبع تعاطيها مع الأحداث منذ ثورة 2011، والذي تميز بالنأي عن التجاذبات السياسية، أو الجزم بأنّ الأمر يتعلق بمجرد تطبيق لتعليمات القيادة العليا للجيش؛ ممثلة في الرئيس سعيّد، بمقتضى التراتبية والانضباط العسكري، أو الانخراط في ما يجري والتحول إلى لاعب جديد في المشهد السياسي التونسي، وإنْ كان هذا الأمر غير محتمل بدليل إقالة وزير الدفاع بالأمر الرئاسي نفسه الذي أُقيل به رئيس الحكومة.

لا تمثّل معطيات الداخل المؤشر الوحيد إلى مآلات ما يجري في المشهد السياسي التونسي؛ إذ يظل الموقف الإقليمي والدولي عاملًا آخرَ مهمًّا في نجاح أو فشل الانقلاب على الدستور الذي قام به الرئيس. ولعل موقف الاتحاد الأوروبي الداعي إلى الإسراع في العودة إلى الحياة الدستورية، واستئناف نشاط مجلس النواب، والموقف الأميركي المؤكد على حلّ المشاكل بالاستناد إلى الدستور، تُعدُّ كلّها مؤشرات دالّة على عدم وجود رغبة دولية في إفشال التجربة الديمقراطية التونسية وضرب استقرار البلاد في أثناء ذلك. وقد بدَا الموقف الأميركي أشد وضوحًا من الموقف الأوروبي، وهو الأشد قدرة على التأثير في الجيش التونسي. ولكن المواقف الدولية لن تدافع عن التجربة التونسية إلا إذا خرجت القوى الحزبية والمدنية التونسية بموقف قويّ وموحّد معارض للانقلاب على التجربة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة العربية.

خاتمة

بعد مرور أيام قليلة على الانقلاب الذي قاده الرئيس على الدستور، وتصاعد الأصوات الداخلية والخارجية الداعية إلى سرعة العودة إلى الحياة الدستورية والمؤسساتية وحماية الحريات وحقوق الإنسان، بدأت تظهر مؤشرات ترجح نشوء صعوبات أمام سعيّد في استنساخ السيناريو المصري وإعادة إنتاج منظومة الاستبداد. لا شك في أن الشعب التونسي يعاني مشاكل اقتصادية صعبة زادَ من حدتها عجزُ الديمقراطية التونسية الناشئة عن تلبية التوقعات في حلّها بخطط تنموية ناجعة. كما أن التكتيكات الحزبية المفرطة والمماحكات الحزبية وتراشق التهم ورغبة المعارضة في إفشال الحكومة بأي ثمن في مرحلة صعوبات اقتصادية حادة أسهمت، كلّها، في زيادة حدة الفشل وخيبة الأمل لدى الشارع؛ في ما يتعلّق بالحلول العملية لمشكلاتهم الاقتصادية. لكن كل ذلك لا يبرر التراجع عن المكتسبات الديمقراطية الكبيرة التي حققها الشعب التونسي على مدى العقد الماضي، أو السماح لرئيس لا يمتلك أيّ سجلٍّ مهني بارز أو نضالي أو سياسي بإطاحة هذه الإنجازات والتحريض بخطاب شعبوي يدّعي الترفّع عن السياسة لإعادة إنتاج منظومة الاستبداد.

إنّ الديمقراطية في حد ذاتها هي حلٌّ لآفة الطغيان وضمان لحقوق المواطن، وليست حلًّا للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية. فهذه وظيفة القوى السياسية والاجتماعية ومؤسسات الحكم، وذلك في إطار النظام الديمقراطي الذي يجب الحفاظ عليه؛ لأن البديل هو الاستبداد الذي يقمع الحريات ولا يُقدّم حلًّا للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية.


[1] للمزيد، ينظر: "الأزمة السياسية/ الدستورية في تونس: حيثياتها وآفاقها"، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 27/4/2021، شوهد في 26/7/2021، في: https://bit.ly/3iOuEej

[2] للمزيد، ينظر: "احتجاجات متفرقة في عدد من المدن التونسية ومحاولات لاقتحام مقرات ’النهضة‘"، العربي الجديد، 25/7/2021، شوهد في 26/7/2021، في: https://bit.ly/3kXcc5K

[3] "رئيس الجمهورية يترأس اجتماعًا طارئًا للقيادات العسكرية والأمنية"، صفحة "رئاسة الجمهورية التونسية"، فيسبوك، 25/7/2021، شوهد في 27/7/2021، في: https://bit.ly/3xc37bI

[4] للاطلاع على الفصل 80 من دستور الجمهورية التونسية كاملًا، ينظر: "دستور تونس الصادر عام 2014"، في: https://bit.ly/3i6wWpX

[5] للمزيد، ينظر: "هل خرق قيس سعيد دستور تونس؟.. إليك المادة 80 التي بنى عليها قراراته"، الجزيرة نت، 25/7/2021، شوهد في 26/7/2021، في: https://bit.ly/3zIsEuZ

[6] "عياض بن عاشور: ما حدث هو انقلاب بأتم معنى الكلمة"، يوتيوب، 26/7/2021، شوهد في 28/7/2021، في: https://bit.ly/3j1Z1y2

[7] "الأزمة في تونس.. جدل بين خبراء القانون الدستوري حول قرارات سعيد"، دوتشه فيله، 27/7/2021، شوهد في 28/7/2021، في: https://bit.ly/2TEZKfH

[8] راشد الغنوشي: "ما قام به قيس سعيد هو انقلاب على الثورة والدستور وأنصار النهضة والشعب التونسي سيدافعون على الثورة"، صفحة "راشد الغنوشي"، فيسبوك، 25/7/2021، شوهد في 27/7/2021، في: https://bit.ly/3l0STsr

[9] صفحة "ائتلاف الكرامة الصفحة الرسمية"، فيسبوك، 26/7/2021، شوهد في 27/7/2021، في: https://bit.ly/3iWK1RV

[10] صفحة "التيار الديمقراطي"، فيسبوك، 26/7/2021، شوهد في 27/7/2021، في: https://bit.ly/3l2RBgy

[11] "تصحيح مسار الثّورة لا يكون بالانقلابات وبالحكم الفردي المطلق"، صفحة "حزب العمال الصفحة الرسمية"، فيسبوك، 26/7/2021، شوهد في 27/7/2021، في: https://bit.ly/3rKDgXq

[12] "’الجمهوري‘ التونسي: قرارات الرئيس سعيّد ’انقلاب‘ على الدستور"، وكالة الأناضول، 26/7/2021، شوهد في 28/7/2021، في: https://bit.ly/3BRZ1sG

[13] "بيان حول قرارات سيادة رئيس الجمهورية"، صفحة "نواب حركة الشعب"، فيسبوك، 26/7/2021، شوهد في 27/7/2021، في: https://bit.ly/3x92fV6

[14] "بيان المكتب التنفيذي الوطني حول التطوّرات الأخيرة في البلاد"، موقع الاتحاد العام التونسي للشغل، 26/7/2021، شوهد في 27/7/2021، في: https://bit.ly/2WrdMTj

[15] "التأكيد على استقلالية السلطة القضائية والنأي بها عن التجاذبات السياسية"، المجلس الأعلى للقضاء، 26/7/2021، شوهد في 27/7/2021، في: https://bit.ly/3x3u7tP