كيف نفهم فوز ترامب؟

كيف نفهم فوز ترامب؟

21 يناير 2017
+ الخط -
لم يشكّل فوز دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة صاعقة للعالم فحسب، وإنما أيضاً للأميركيين الليبراليين، أو المقيمين في ولايات شرق الولايات المتحدة وغربها، وربما لقناعة هؤلاء أنه من المستحيل على ترامب أن ينجح رئيساً، فقد نجح فعلاً، وبأصوات أقل مما حصل عليه المرشح الجمهوري الخاسر، ميت رومني، أمام باراك أوباما في العام 2012، فقاعدة الديمقراطية هيلاري كلينتون الانتخابية لم تذهب إلى التصويت بكثافة، كما حال قاعدة ترامب التي نجحت في حشد الأصوات الكافية لإيصاله إلى البيت الأبيض.
كيف يمكن أن نفسّر أو على الأقل نفهم فوز ترامب، فالولايات المتحدة الذي أوصلت إلى البيت الأبيض أول رئيس أسود من أصول أفريقية إلى سدة الرئاسة (باراك أوباما) ها هي توصل عكسه تماماً في الصفات وفي السياسات تقريباً إلى البيت الأبيض، كيف يمكن أن نفهم تسامح الأكثرية من الأميركيين مع تصريحاتٍ عنصريةٍ قام بها المرشح الجمهوري تجاه المكسيكيين والمسلمين والنساء وغيرهم، على الرغم من أن واحدةً منها كانت كافيةً في السابق لإسقاط أي مرشح سابق، جمهورياً كان أم ديمقراطياً.
هل يكفي القول إن هناك ثورة من "البيض" ضد أوباما، ورد فعل على انتخابه، لتبرير وصول ترامب؟ بالتأكيد لا. هل نقول إنها ثورة المهمشين والريفيين في الولايات الوسطى والجنوبية ضد نخب الساحل في الولايات الشرقية والغربية، أو ما يطلق عليهم نخب نيويورك وكاليفورنيا، هذه كلها تبسيطات ربما تنجح، إذا ركزنا على العوامل الثقافية في التفسير، لكنها لن تفلح في تفسير نجاح ترامب في ولايات ساحليةٍ ومتقدمةٍ مثل فلوريدا، أو صناعية مثل ميتشغان ووسكنسن. ولذلك أعتقد أن هناك ثلاثة عوامل رئيسية ساعدت أو لعبت دوراً مركزياً في نجاح ترامب:
الأول: المحكمة الدستورية العليا، فمنذ 11 شهراً تقريبا توفي القاضي سكاليا، وهو يعتبر من أشهر القضاة المحافظين في المحكمة الدستورية العليا، وكان أول قاضٍ من أصول مكسيكية عيّنه الرئيس دونالد ريغان قاضياً في هذه المحكمة، واشتهر بمواقفه وتفسيراته النصّية، كما كان يقال عنها، لنصوص الدستور، وكان قد شكل توازناً حقيقياً في المحكمة بين الليبراليين
 والمحافظين، وهي قضية بالغة الحساسية في الولايات المتحدة، فبعد وفاته ساد تخوّفٌ كبير لدى الجمهوريين، ولدى المحافظين بشكل أكبر، أن فوز هيلاري كلينتون يعني أنها سترشح شخصاً ليبرالياً للمحكمة، وهو ما سيخل بتوازن المحكمة لصالح الليبراليين، ويدعم قضاياهم في ما يتعلق بحقوق المثليين والإجهاض، وغيرها من القضايا بالغة الحساسية، وخصوصاً بالنسبة للمحافظين وفي الولايات الوسطى والجنوبية. ولذلك كانت كثافة التصويت عاليةً جداً بين من يسمون الإيفانجليكان الذين صوّتوا لترامب بنسبة 82%، وهي أعلى من النسبة التي صوّتوا فيها لجورج بوش الابن نفسه الذي اشتهر بوصفه وصل إلى البيت الأبيض بسبب أصواتهم (يطلق عليهم المولودون من جديد). في الحقيقة أظهرت استطلاعات الرأي أيضاً أن من بين خمسة أميركيين صوتوا في الانتخابات الأخيرة هناك واحد على الأقل كان دافعه في التصويت الفراغ في المحكمة الدستورية العليا. وعند وفاة القاضي أسكاليا، رفض الجمهوريون الذين يسيطرون على مجلس الشيوخ تعيين أي عضوٍ آخر، واعتبروا ذلك يعود إلى الرئيس المقبل الذي سينتخب في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016. وبالتالي، لم يستطع الرئيس أوباما تعيين أي خلف له، وبقي المقعد فارغاً أكثر من 11 شهراً.
قرأ ترامب ذلك جيداً. ولذلك، وكي يضمن تصويت المحافظين له، وبكثافة، على الرغم من حياته الفارهة وغير المحافظة بكل تأكيد، عيّن نائباً للرئيس له شديد المحافظة، مارك بنس، الذي كان محافظاً لولاية أنديانا. والأهم أنه قال، في المناظرة الانتخابية الثالثة له مع كلينتون، إنه سيعين قاضياً محافظاً وضد الإجهاض في المحكمة الدستورية العليا، وهو موقفٌ شديد اليمينية، ولا يتبناه الحزب الجمهوري رسمياً. وبالتالي، استطاع إقناع الأفانجليكان بالتصويت له، وتخويفهم من أن فوز كلينتون يعني أن تنتهي المحكمة الدستورية بيد الليبراليين، وبالتالي المزيد من القوانين والتشريعات الليبرالية التي ينظر لها أميركيون كثيرون على أنها ضد العقيدة المسيحية وضد توجهاتهم المحافظة.
العامل الثاني: الاقتصاد، ورث أوباما الاقتصاد الأميركي في عام 2008 في أسوأ أزمة مالية تعصف بالولايات المتحدة منذ الكساد الكبير في عام 1929، واستطاع، بفضل سياساته الاقتصادية، تجنيب الأسوأ للولايات المتحدة وللعالم، عبر تبنيه برامج الدعم الحكومي للمؤسسات المالية والصناعية الخاصة، وهو عملياً إجراء تبناه الرئيس جورج بوش سابقاً، لكن أوباما وسع هذا البرنامج بشكل أكبر، فشمل البنوك الكبرى، وخصوصاً بنك أميركا وشركات السيارات التي كانت في طريقها إلى الإفلاس، مثل جنرال موتورز. واستطاع أوباما، في سنواته الثماني، أن يخلق فرصاً للعمل، اعتبرت تاريخيةً مقارنة بمن سبقوه من الرؤساء، فقد وصلت البطالة في العام الماضي إلى أقل نسب البطالة في تاريخ الولايات المتحدة، لكن المشكلة كانت في نسبة النمو التي لم تتعدّ 2%، وفي بعض السنوات أقل، وهي من أقل نسب النمو في تاريخ الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. وبالتالي، يجد أميركيون كثيرون أنفسهم أنهم يعملون أكثر ويحصلون على الأقل. ومع ارتفاع تكاليف المعيشة بشكل كبير، أصبحت الأجور لا تتناسب مطلقاً مع الرواتب، ومع دخول الولايات المتحدة، كأكبر اقتصاد في العالم، إلى ما يسمى عصر (Sharing economy)، وهو مرحلة متقدمة عن الاقتصاد الرقمي، أو اقتصاد المعرفة، ازدادت الفجوة بشكل يفوق 300% بين الفقراء والأغنياء في الولايات
المتحدة، وتضاءلت الطبقة الوسطى التي ميزت الولايات المتحدة واقتصادها على مدى عقود، لتنخفض نسبتها من 32% من الشعب الأميركي إلى 27% فقط من الشعب، وهذا ما استغله ترامب بشكل كبير، لكي يشكل ظاهرةً غريبةً في عالم السياسة الأميركي، فهو ليس جمهورياً تقليدياً، لأنه وقف ضد اتفاقيات التجارة الحرة وضد العولمة، فالتجارة الحرة تشكل مبدأ رئيسياً في العقيدة الجمهورية، ولا هو سياسي تقليدي، إذ هو أول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة لم يسبق له أن احتل أي موقع حكومي سابق، سواء على المستوى المحلي أو الوطني. وبذلك، كان من السهل عليه أن يقول إن كل النخب السابقة فاسدة، وعطلت الاقتصاد، وأنني أنا من يستطيع إعادة أميركا إلى عصرها الذهبي اقتصادياً من جديد، من خلال تجربته الاقتصادية، على الرغم من أن خبرته تضمنت سنوات فشل كثيرة، حيث أعلن إفلاسه أربع مرات على الأقل. لكن خبرته الاقتصادية دفعت كثيرين ممن فقدوا وظائفهم، أو شعروا أنهم لا يحصلون على الكافي من الأموال، على الرغم من عملهم الطويل، إلى التصويت له بكثافة، وتجاهلوا كل تصريحاته العنصرية وتصرفاته الشخصية.
العامل الثالث: كلينتون ذاتها. يقال في الولايات المتحدة الآن إن ترامب كان المرشح الوحيد الذي كان لكلينتون أن تهزمه، والعكس صحيح أن كلينتون هي المرشحة الوحيدة التي يمكن لترامب هزيمتها، فتاريخها السياسي الطويل لم يشفع لها، حيث لم تحصل على ثقة الحزب الديمقراطي إلا بشق الأنفس، وأظهرت تسريبات الحزب الديمقراطي أن قيادة الحزب تآمرت ضد المرشح ساندرز من أجل وصول كلينتون إلى الترشيح. وبالتالي، لم تكن شعبيتها كبيرةً، حتى داخل حزبها، وهذا ما أثر على كثافة التصويت لصالحها، وهو ما استغله ترامب بقوة، ففاز بأصوات أقل مما حصل عليه المرشح الجمهوري الخاسر رومني. وكونها ترشحت بوصفها امتداداً للرئيس أوباما، فقد كانت وزيرته للخارجية، وأوباما دعمها بقوة خلال حملتها الانتخابية. وبالتالي، هي رفضت انتقاده من أجل الحصول على أصوات الأميركيين من أصل أسود. وبالتالي، اعتقدت كلينتون أنها ربما تستطيع النجاح بالاعتماد على القاعدة الانتخابية نفسها التي أوصلت أوباما إلى البيت الأبيض مرتين، في عامي 2008 و2012، لكن المشكلة أنها حملت كل أخطاء أوباما في عدم النمو الاقتصادي، وفي الفشل في السياسة الخارجية، وخصوصاً ظهور "داعش" وسيطرته على مناطق كبيرة من العراق وسورية. ولذلك، كانت هدفاً سهلاً لانتقادات ترامب في تحميلها أسباب الفشل الاقتصادي والخارجي، ولما كان أوباما من أكثر الرؤساء ليبراليةً، فقد أخاف هذا أميركيين كثيرين من أصول بيضاء أن تستمر كلينتون على السياسة نفسها. ولذلك، اعتقد أكثر من 72% من الأميركيين أن الولايات المتحدة في الطريق الخطأ، على الرغم من أن الأكثرية (62%) تعتقد أن ترامب ليس مؤهلاً لاتخاذ القرارات الصحيحة، لكنهم مستعدون لأخذ الخطر من أجل التغيير خوفاً من استمرار السياسات الليبرالية في عهد أوباما، ومن ثم كلينتون.
BCA0696E-8EAC-405E-9C84-3F8EA3CBA8A5
رضوان زيادة

كاتب وباحث سوري، أستاذ في جامعة جورج واشنطن في واشنطن